سيكي محمد ـ باحث في علوم الإقتصاد
الشهادة الجامعية عتبة البطالة! لماذا ي’تمثل معضلة بطالة حاملي الشهادات العليا واحدة من أكثر المفارقات إيلاماً وإثارة للتساؤل في المشهد الاقتصادي والاجتماعي المغربي. فبينما تُوجَّه الأنظار نحو الجامعة كحاضنة للمعرفة ومصنع للنخب،نجد أن جزءاً كبيراً من ناتجها – وهم خريجوها – يعانون من صعوبة حادة في العثور على موطئ قدم لهم في سوق الشغل،هذه المفارقة تدفعنا إلى التساؤل بحدة:من المسؤول عن هذه الأزمة؟هل الخلل في المنظومة الجامعية التي تنتج”عاطلين متعلمين”؟ أم في بنية سوق الشغل المغربية العاجزة عن استيعاب الكفاءات؟ أم أن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك؟
الحقيقة التي يجب أن نبدأ بها هي أن إلقاء اللوم على طرف واحد هو تبسيط مخل للأزمة،فالمشكلة هيكلية ومركبة،تتقاطع فيها عوامل عدة لتخلق هذه الفجوة المؤسفة.
أولاً: الجامعة.. هل ما زالت “برجاً عاجياً”؟
لا يمكن تبرئة المنظومة الجامعية من جزء كبير من المسؤولية،ففي كثير من الأحيان، تقدم الجامعة معارف نظرية مجردة، بعيدة عن الواقع العملي ومتطلبات سوق الشغل يمكن إجمال أوجه القصور في:
فجوة المهارات: تفتقر العديد من المسارات الجامعية إلى التركيز على المهارات الناعمة مثل التواصل الفعال،والعمل ضمن فريق،والقيادة،وحل المشكلات،والقدرة على التكيف،كما أن المهارات التقنية المطلوبة غالباً ما تكون متخلفة عن ركب التطور التكنولوجي والتحول الرقمي.
ضآلة التوجيه والتأهيل: يفتقر الكثير من الطلاب إلى تأهيل القدرات الحقيقي الذي يؤهلهم لخوض غمار المنافسة في السوق،كما أن برامج التوجيه المهني تبقى محدودة الفعالية.
القطيعة مع المحيط الاقتصادي: ضعف التعاون بين الجامعة ومحيطها الاقتصادي والاجتماعي من خلال الشراكات الحقيقية مع المقاولات،يجعل من الصعب على الطالب فهم حاجات السوق،وعلى المقاولة استكشاف المواهب.
ثانياً: سوق الشغل.. اقتصاد غير قادر على “استيعاب المعرفة”
من الظلم تحميل الجامعة وحدها تبعات الأزمة،فسوق الشغل المغربي يعاني هو الآخر من إشكاليات بنيوية عميقة:
هيمنة القطاع غير المهيكل: يحتل القطاع غير المهيكل حيزاً كبيراً من الاقتصاد المغربي،وهو قطاع لا يستوعب عادة حاملي الشهادات ولا يستفيد من كفاءاتهم،بل يعتمد على علاقات العمل غير الرسمية والعمل غير المؤمن عليه.
ضعف النسيج الإنتاجي: لا يزال الاقتصاد المغربي يعتمد بشكل كبير على قطاعات تقليدية ذات إنتاجية متدنية وقيمة مضافة ضعيفة،ولا تحتاج إلى عدد كبير من حاملي الشهادات العليا مقارنة بالقطاعات الحديثة القائمة على الاقتصاد المعرفي والابتكار.
عدم توافق العرض والطلب:هناك خلل في الهيكلة القطاعية للاقتصاد،فبينما تنتج الجامعة أعداداً كبيرة في تخصصات معينة (كالعلوم الإنسانية والقانون)،نجد أن سوق العمل يحتاج بشدة إلى كفاءات في تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات ،والطاقات المتجددة،والذكاء الاصطناعي،والتحول الرقمي.
ثالثاً: الحلول.. نحو تكامل ضروري
لا يمكن حل هذه المعضلة إلا بتبني مقاربة متكاملة،حيث تلتقي إرادة الإصلاح من جميع الأطراف:
دور الجامعة: الانتقال من جامعات “ناقلة للمعرفة” إلى جامعات “منتجة للكفاءات”،وذلك من خلال:
مراجعة البيداغوجيا والمناهج الدراسية لربطها بحاجات السوق.
تعزيز التعليم التطبيقي عبر التداريب المهنية الستاجات والمشاريع العملية،وإشراف من عالم المقاولة.
تطوير مسارات التخصص في مجالات المستقبل والاستثمار في التكوين المستمر.
دور الحكومة وسياسات التشغيل:
تحفيز القطاعات الواعدة والقادرة على خلق مناصب شغل ذات جودة عالية.
تطوير حاضنات المقاولات ومسارات ريادة الأعمال لتحويل الخريجين من باحثين عن شغل إلى مبتكرين لفرص العمل.
إصلاح منظومة التدبير العمومي لتعزيز الشفافية وربط التوظيف بالكفاءة.
دور الخريج نفسه: على الشاب المغربي الطموح أن يتحمل جزءاً من المسؤولية،بالسعي الدؤوب لاكتساب المهارات المطلوبة،وتطوير ذاته باستمرار،وتبني ثقافة التعلم مدى الحياة وعدم الانتظار إلى حين التخرج للبدء في بناء مساره المهني.
خلاصة القول،إن مفارقة بطالة حاملي الشهادات هي نتاج لخلل في نظام التشغيل بأكمله وعقلية المشغل،ليست الجامعة هي المتهم الوحيد،وليس سوق الشغل هو المشكلة الوحيدة،بل هو فشل في التكامل بينهما،الخروج من هذا المأزق يتطلب جرأة في إصلاح المنظومة التعليمية من جهة،وإرادة سياسية حقيقية لإصلاح الاقتصاد وخلق دينامية إنتاجية جديدة من جهة أخرى،آن الأوان لتحويل الشهادة من ورقة تبوء بصاحبها على عتبة البطالة،إلى جواز سفر حقيقي يفتح له آفاق الاندماج والمساهمة في بناء مغرب الغد.


Comments
0