من يتابع ما جرى خلال الأيام الأخيرة، يدرك أنّ ما حدث لم يكن مجرد بثّ مقاطع فيديو أو تسريب لاجتماع داخلي، بل مواجهة عميقة بين مفهومين: مفهوم الصحافة كحقّ في كشف الحقيقة، ومفهوم الصحافة كجهاز ضبط وترويض. وبينهما يقف حميد المهداوي، ليس كشخص فقط، بل كاختبار لقيمة الحرية في المغرب.
لقد قدّم المهداوي، رغم حساسية المعطيات التي نشرها، نموذجاً لخطّ تحريري واعٍ، انتقى مواده بعناية، وحرص على إخفاء ما قد يمسّ بأشخاص غير معنيين. هذا السلوك في حد ذاته معيار أخلاقي لا يمكن تجاهله: كشف يساعد على الفهم، لا على الإيذاء؛ كشف يخدم المصلحة العامة، لا التشهير.
وتجارب الدول الديمقراطية تُظهر أن مثل هذه المواد قد تثير مساءلة قانونية، لكن القيمة الحقوقية للمحتوى تُلزم المؤسسات بفتح التحقيق لا بإسكات الصوت. فالأخلاقي، في اللحظات الحرجة، هو حماية الناس ومحاسبة السلطة عندما تتأكد الحقائق، لا حماية السلطة بإسكات الناس.
اليوم، نحن أمام ثلاثة أسئلة جوهرية:
هل نريد نموذجاً صحفياً يخضع للمساءلة المهنية؟
هل نريد مؤسسات قادرة على مواجهة النقد بدل معاقبة منتقديها؟
وهل نريد أن تكون حرية التعبير حقاً حقيقياً أم مجرد ديكور؟
الردّ الذي قدّمته اللجنة المؤقتة للمجلس الوطني للصحافة جاء بلغة ترى في الفيديو “جريمة”، وفي المهداوي “معتدياً”، وفي ما نشره “استهدافاً”. لكن السؤال الأعمق: أليس من حقّ الرأي العام معرفة ما يجري داخل مؤسسة تُعنى بأخلاقيات المهنة؟ أليس من واجبنا حماية المبلّغين بدل ملاحقتهم؟ كيف يمكن لمجلس هدفه تنظيم المهنة أن يتحوّل إلى منصة لتصفية الحسابات؟
إن استغلال آليات المجلس، أو أي هيئة رسمية، بهدف التضييق على الصحافيين، يمسّ بجوهر الفكرة التي ناضل من أجلها الجسم الإعلامي طويلاً: التنظيم الذاتي. ما نعيشه اليوم ليس مجرد خلاف مهني، بل إنذار واضح بأن استقلالية الصحافة مهددة، وأن بعض الأصوات داخل المؤسسات ترغب في تحويل النقد إلى جريمة، وتحويل الصحفي إلى خصم.
وليس سرّاً أن المهداوي، بحكم القانون، صحفي معترف به بتصريح المحكمة، وأن سحب بطاقته المهنية كان خطوة لإسكاته وليس قراراً مهنياً بريئاً. فحين يُحرم صحفي من وثيقته المهنية فقط لأنه ينتقد، فهذا يعني أن حرية الإعلام لم تعد متاحة إلا لمن يرفع شعار “نعم”، ويُعاقَب من يسأل “لماذا؟”.
الصحافة المغربية اليوم تقف أمام مفترق طرق. هناك من يريد إعلاماً مطيعاً، بلا ضجيج، بلا مساءلة، بلا أسئلة. وهناك من يؤمن أنّ مستقبل البلد لا يُبنى إلا بحرية حقيقية، تفضح الخلل، وتكشف الارتباك، وتحاسب المسؤول، وتشجّع الاستقامة.
إذا استمر هذا المسار، سنصل إلى لحظة يصبح فيها الصحفي محروماً من أدوات عمله، مهدداً بالملاحقة، ومجبراً على الصمت. وعندها لن يكون الخطر على المهداوي وحده، بل على المهنة برمتها. لأن إسكات صحفي واحد هو تدريب على إسكات الجميع.
لهذا، فإن حماية حميد المهداوي اليوم ليست دفاعاً عن فرد، بل عن معيار ديمقراطي غداً. وإذا كانت الوقائع التي نشرها صحيحة، فالطريق واضح: تحقيقات، تدقيق، مسؤوليات، إجراءات. أما تجاهل المحتوى والانشغال بالسؤال “من صوّر؟” فهو قتلٌ للمعنى، وهروب من الحقيقة.
المغرب الذي يريد أن يكبر لا يمكنه أن يقتل المعنى. ولا يمكنه أن يربّي صحافة خائفة. المستقبل لن يُكتب إلا بالإيمان بأن القانون فوق الجميع، وبأن حرية الصحفي ليست امتيازاً يمنحه مجلس أو مسؤول، بل حقّ يكفله الدستور وروح العصر.
إننا اليوم بحاجة إلى وقفة جماعية، من جميع القوى الحية، قبل أن يتحوّل التضييق إلى قاعدة، والخوف إلى نظام. فالصحافة ليست خصماً للدولة، بل مرآتها. وعندما تُحطَّم المرآة، لا يختفي التشوّه… بل يختفي من يجرؤ على رؤيته.


Comments
0