من التنمية إلى السيادة: رؤية ملكية تصنع مغرب الجهات
في الوقت الذي تتسارع فيه التحولات الإقليمية والدولية، يواصل المغرب بناء نموذجه الخاص في إدارة وحدته الترابية من خلال الجهوية المتقدمة، مشروع ملكي طموح يجسد انتقال الدولة من منطق المركزية إلى منطق القرب والمشاركة والحكامة الديمقراطية.
فمنذ استرجاع الأقاليم الجنوبية، ظلّ المغرب يعتبر قضية الصحراء قضية وجود لا حدود، ومختبرًا عمليًا لبناء دولة العدالة المجالية والسيادة التنموية.
رؤية ملكية متبصّرة منذ البدايات

منذ اعتلائه العرش، جعل جلالة الملك محمد السادس نصره الله قضية الصحراء محورًا مركزيًا في مسار الإصلاح والبناء الديمقراطي.
وفي خطابه التاريخي يوم 6 نونبر 2005 بمناسبة الذكرى الثلاثين للمسيرة الخضراء، قال حفظه الله:
“إن تشبثنا بمغربية صحرائنا، لا يعادله إلا حرصنا على إيجاد حل سياسي تفاوضي للنزاع المفتعل حولها، يخول لأقاليمنا الجنوبية حكمًا ذاتيًا، يضمن لسكانها تدبير شؤونهم الجهوية، في نطاق سيادة المملكة ووحدتها الوطنية والترابية.”
منذ تلك اللحظة، لم تعد الجهوية خيارًا إداريًا فحسب، بل مشروعًا سياسيًا وتنمويًا يؤسس لمغرب الجهات المتضامنة، ويمنح الأقاليم الجنوبية مكانتها الحقيقية في قلب المشروع الوطني.

من المسيرة الخضراء إلى مغرب الجهات
حين أعلن جلالة الملك سنة 2008 من مراكش عن إطلاق مسار الجهوية المتقدمة، كان يفتح صفحة جديدة في مسار الإصلاحات الكبرى، قائلًا:
“قررنا، بعون الله، فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها، بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية.”
بهذه الرؤية، أصبحت الصحراء نقطة انطلاق لا نقطة نزاع، ونموذجًا في تدبير الشأن المحلي بالاعتماد على مؤسسات جهوية منتخبة، واقتصاد جهوي منفتح على إفريقيا والعالم.

القرار الأممي 2797.. دعم دولي للمقاربة المغربية
القرار الأممي رقم 2797 (2025) جاء ليكرس واقعية المقاربة المغربية، مؤكدًا أن مبادرة الحكم الذاتي هي الحل السياسي الوحيد الواقعي وذي المصداقية.
هذا التحول في الموقف الدولي لم يكن صدفة، بل نتيجة لسياسات تنموية ملموسة جعلت من الصحراء فضاءً للنمو والاستقرار.
ففي مقابل الجمود الإقليمي، قدّم المغرب نموذجًا للأقاليم المتقدمة والمندمجة في مشروع وطني واضح المعالم.
الجهوية المتقدمة.. إصلاح يرسخ السيادة
في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2018، شدد جلالة الملك على البعد المؤسساتي والديمقراطي للجهوية قائلًا:
“إن تنزيل الجهوية المتقدمة يساهم في انبثاق نخبة سياسية حقيقية تمثل ديمقراطيا وفعليًا سكان الصحراء، وتمكنهم من حقهم في التدبير الذاتي لشؤونهم المحلية، وتحقيق التنمية المندمجة.”
بهذا التوجيه، تتجسد الجهوية كأداة لبناء السيادة من القاعدة إلى القمة، إذ تُحوّل المواطن من متلقٍّ إلى مشارك في القرار، وتربط الانتماء بالمسؤولية والمبادرة.

التنمية رهان السيادة
اختار المغرب أن يجعل من التنمية لغة الدفاع عن الوحدة الترابية.
فمن مشاريع الميناء الأطلسي بالداخلة، إلى البنيات التحتية الكبرى والمناطق الصناعية والسياحية، تترسخ الصحراء اليوم كقلب نابض للتنمية الوطنية.
ولذلك قال جلالة الملك في خطاب سنة 2020:
“إن مغربية الصحراء حقيقة لا نقاش فيها، والجهوية المتقدمة والحكم الذاتي هما السبيل العملي لتحقيق التنمية والتمثيلية الحقيقية لسكان أقاليمنا الجنوبية.”
هكذا يتحول الإنجاز إلى أقوى دليل على السيادة، ويصبح الاستثمار في الإنسان حجر الزاوية في الدفاع عن الأرض.
مغرب الجهات.. مغرب المستقبل
الجهوية المتقدمة ليست محطة عابرة في مسار الدولة، بل مبدأ تأسيسي لمغرب القرن الواحد والعشرين؛ مغرب يقوم على القرب، والمساءلة، والعدالة المجالية.
ومن الصحراء المغربية انطلق هذا الورش التاريخي ليعمّ باقي الجهات، في تأكيد على أن السيادة لا تُفرض بالقوة، بل تُبنى بالمشاركة والتنمية والاحترام المتبادل بين الدولة والمواطن.
فالمغرب، وهو يحتفل بخمسين سنة على المسيرة الخضراء، يثبت أن الصحراء ليست فقط قضية وطنية، بل قضية بناء دولة متماسكة تؤمن بوحدتها وتعيشها كل يوم.


Comments
0