حين توقّفت طائرة الجزائر في مطار برلين، لم يكن المشهد حدثاً دبلوماسياً عادياً، بل لحظة فاصلة في علاقة الكاتب العربي بسلطته. خرج بوعلام صنصال من السجن، لكنه لم يخرج من معركة الحرية؛ خرج ليواجه فصلاً أخيراً بين الجسد الواهن والفكرة التي لم تهرم.
ثمانون عاماً من التمرد الهادئ جعلت من صنصال حالة فكرية أكثر منها أدبية. لم يكتب لينافس على جوائز، بل ليزعزع يقيناً راسخاً في مجتمعاتٍ تخاف السؤال أكثر مما تخاف الجواب. حين أدانته المحكمة بتهمة “تقويض الوحدة الوطنية”، كان يعلم أنه لا يُحاكم بصفته كاتباً، بل بصفته مرآةً تعكس هشاشة الدولة حين تخشى فكر أبنائها.
لكن المفارقة أن الوطن الذي سجنه عاد فعفا عنه. قرار العفو لم يكن انتصاراً للرحمة فقط، بل اعترافاً ضمنياً بأن الكلمة لا تُسجن، وأن الجسد حين يُنهك لا يعني هزيمة الفكرة. ألمانيا، التي استقبلته مريضاً، احتضنته كما تُحتضن الرموز التي تدفع ثمن صدقها، بينما الجزائر بعثت من خلاله رسالة مشروطة: يمكن للسلطة أن تسامح، لكنّ الذاكرة لا تمحو.
في روايته 2084: نهاية العالم، حذّر صنصال من استبداد الفكرة حين تتحوّل إلى ديانةٍ جديدة تقتل الاختلاف باسم الحقيقة. واليوم، يعيش هو ذاته داخل تلك النبوءة، إذ غدا جسده نصاً يروي فصول صراعه الأخير مع أنظمةٍ تخاف الوعي، ومع زمنٍ يقتل المثقف حين يقول “لا” بلغةٍ راقية.
في غرفة بيضاء ببرلين، بين نبضٍ خافت وحنينٍ لا يهدأ، يتأمل صنصال مشهده الأخير: وطنٌ يحاسبه على حبّه، وسلطةٌ تخشى الكلمة لأنها تفضح ضعفها. هناك، يفهم أن الحرية ليست شعاراً تُعلّقه الأمم على جدرانها، بل امتحاناً أخلاقياً يكشف مقدار ما تبقّى من إنسانيتها.
قد يرحل صنصال، لكن ظله سيبقى سؤالاً معلّقاً في وجه الأنظمة:
كيف لوطنٍ يخاف من كاتبه أن يدّعي القوة؟
لقد كتب الرجل بجسده ما لم يجرؤ كثيرون على كتابته بأقلامهم:
أن الكلمة قد تُسجن، لكنها لا تنكسر، وأن الحرية هي آخر ما يليق بالإنسان قبل أن يغادر الحياة.


Comments
0