تقدّم الكاتبة الإيطالية نيكوليتا بورتولوتي، من خلال نصّها المؤثر الذي نشرته عقب تعرضها لاعتداء بمدينة مراكش، شهادة استثنائية ذات بعد إنساني واجتماعي وثقافي، تتجاوز مجرد سرد حادثة شخصية إلى تحليل دقيق لواقع بلدٍ عرفته في لحظة ألم، واكتشفته في لحظة تعافٍ.
تكتب نيكوليتا ليس كضحية تبحث عن الشفقة، بل ككاتبة تتأمل التجربة بعين نقدية، وتبني من جرحها رؤية أوسع حول المجتمع المغربي وصورته في الخارج، وحول القيم التي تظل حاضرة رغم كل التناقضات التي تسكن المدن السياحية الكبرى.
منذ الجملة الأولى، لا تُخفي نيكوليتا أثر الصدمة التي عاشتها. فقد كانت الرحلة إلى مراكش مجرد أيام قليلة لنهاية فصل من الكتابة، لتتحول في ظرف ثوانٍ إلى مواجهة قاسية مع عنف مفاجئ. السقوط بقوة على الرصيف، الجرح الغائر في الرأس، وفقدان الوعي، كلها تفاصيل تنقل القارئ إلى عمق المأساة وتضعه في قلب اللحظة. لكنها، في الوقت نفسه، لا تغرق في دور الضحية، بل تلتقط الخيط الإنساني الذي نسجه حولها المغاربة منذ اللحظة الأولى.
يتحوّل السرد بسرعة من وصف الاعتداء إلى تصوير دقيق لرد فعل الناس. وهنا تظهر قيمة النص الحقيقية: فقد أعادت الكاتبة رسم هوية الإنسان المغربي كما عاشتها في أقسى ظروفها. التجار الذين هرعوا لمساعدة زوجها، الرجل المشرّد الذي خرج من زاوية الشارع ليحملها بين يديه، العاملون في الرياض الذين تحركوا بسرعة، والممرضات اللطيفات اللواتي أحطْنها بالعناية، والطبيب الذي خيّط جرحها بابتسامة مطمئنة. ثم رجال الشرطة الذين حضروا بسرعة، وتعاملوا بجدية ومسؤولية لإنجاز المسطرة. كل هؤلاء شكلوا، في نظر نيكوليتا، سياجاً إنسانياً جعلها ترى المغرب من زاوية مختلفة تماماً عن تلك التي يمكن أن تتركها حادثة عنيفة.
تتوقف الكاتبة عند نقطة جوهرية تكشف عمق القراءة التي تقدمها: فهي لا تُسقِط هذه التجربة على بلدٍ بأكمله، ولا تعتبرها نموذجاً وحيداً لواقع المغرب، بل تعترف بأن الاعتداء يمكن أن يحدث في أي مدينة في العالم، بما فيها ميلانو حيث سُرقت قبل أشهر. لكنها تشدد على الفرق في رد الفعل الإنساني، وعلى حضور التعاطف الشعبي في المغرب بشكل لافت. وهنا تبرز مقارنة ذكية، غير مباشرة، بين فردانية المجتمع الغربي وبين الروابط الاجتماعية الدافئة التي لا تزال حاضرة بقوة في المجتمع المغربي.
هذا العمق في التحليل هو ما يجعل شهادتها تتجاوز الانطباعات السياحية السطحية.
وتكشف رحلتها الطويلة بين المستشفى والمطار والقنصلية الإيطالية جانباً آخر من التجربة، جانباً يُظهر هشاشة الإجراءات الإدارية في حالات الطوارئ. لكنها، حتى في لحظات الإحباط تلك، كانت محاطة بالمغاربة الذين تعاملوا معها بلطف وتعاطف استثنائي. وهي تذكر ذلك بشكل واضح في كل فقرة تقريباً: سائقو التاكسي الذين وضعوا أيديهم على قلوبهم معتذرين، أصحاب المطاعم الذين أرادوا استضافتها، نساء الحي اللواتي تعاطفن معها، وحتى البائع السنغالي الذي باعها نظارات جديدة ووضع يده على قلبه وهو يعتذر.
ينتقل النص، بشكل تدريجي، من سرد الألم إلى كشف الدلالات الإنسانية. تكتشف نيكوليتا أن المغرب، رغم ما حدث، بلد “متوازن ومتسامح وقريب منا أكثر مما كنا نعتقد”. وهذه الجملة تختصر الفكرة المركزية في كتابتها: القدرة على تجاوز الفعل الفردي الإجرامي، والبحث عن روح المجتمع بدل الحكم عليه من خلال حالة معزولة.
ثم تأتي لحظة العودة إلى إيطاليا. وهنا يتجلى الجانب الأدبي العميق في النص. فهي لا تحتفل فقط بالقدرة على السفر، بل بالقدرة على العودة إلى الحياة. تكتب بأن معنى كلمة “البيت” لم يكن يوماً مؤثراً كما كان بعد تلك اللحظة، لكنها تعود لتربط ذلك بالمغرب مرة أخرى حين تقول إن روح المغرب ستظل معها ما دام في بيتها شاي بالنعناع وماء زهر البرتقال.
في ختام نصها، تقدم الكاتبة واحدة من أعمق العبارات وأكثرها إنصافاً: فهي تتمنى ألا تكون العقوبة مدمرة لشبان ربما لم يدركوا خطورة ما فعلوه، بل كافية فقط لتعليمهم وتحويل مسار حياتهم. وهذه الجملة وحدها تلخص روح الإنسان الذي ينظر إلى ما وراء الفعل الإجرامي إلى الجذور الاجتماعية المحتملة التي قد تكون دفعتهم إليه.
شهادة نيكوليتا ليست مجرد سرد لحادث، بل هي وثيقة إنسانية تُظهر كيف يمكن لبلد أن يُرى بعيون ضيوفه، وكيف يمكن لواقعة مؤلمة أن تتحول إلى مساحة للتأمل في القيم الإنسانية والاجتماعية. إنها شهادة تعيد الاعتبار للمغرب من خلال تفاصيل صغيرة لا تنتبه لها الحملات السياحية الرسمية: لمسات إنسانية، مبادرات عفوية، علاقات تضامن، ومشاعر صادقة لا تصنعها الدول بل يصنعها الناس العاديون.
وبقدر ما تكشف الحادثة الحاجة المستمرة لتعزيز الأمن في بعض المناطق السياحية، فإنها تكشف أيضاً أن المغرب لا يزال يحتفظ بالثروة التي لا تُقاس: إنسانيته.


Comments
0