ليس كل من يرفع صوته صاحب حق، وليس كل من يهاجم يمارس النقد. أحيانًا يكون الهجوم علامة اضطراب أمام ما لا يمكن السيطرة عليه، وردّ فعل على حضور فاعل يربك السائد ويكسر منطق الركود. ورابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب لم تظهر لتملأ فراغًا إعلاميًا، ولا لتدخل سباق الشرعيات، بل خرجت من حاجة واقعية وملحّة إلى إطار مهني وإنساني يعيد الاعتبار للصحة النفسية بوصفها قضية مجتمع لا ترف نخبة. ولهذا بالضبط وُضعت في مرمى التشكيك، لأن كل مبادرة تشتغل بوضوح تُربك من اعتادوا الغموض، وكل عمل منظم يفضح منطق الارتجال.
إن من يهاجمون الرابطة يتصرفون وكأن العمل في الصحة النفسية مجال قابل للاحتكار، وكأن الألم الإنساني ملكية خاصة، يُسمح بالاقتراب منه لمن يصمت أكثر مما يعمل. لكن الواقع أن الرابطة كسرت هذا الصمت، وقررت أن تجعل من التكوين، والتأطير، والعمل الميداني، واللقاء العلمي، أفعالًا علنية، مفتوحة، وقابلة للنقاش. مؤتمراتها لا تُدار في الظل، أنشطتها لا تُمارَس خلف الأبواب المغلقة، وقوافلها الطبية لا تُختزل في صور، بل تصل إلى فئات طالها التهميش، وتشتغل حيث يصعب الاشتغال، دون ادعاء البطولة ودون المتاجرة بالمعاناة.
الهجوم الذي تتعرض له الرابطة لا يستند إلى تحليل علمي، ولا إلى مساءلة مهنية دقيقة، بل إلى لغة إيحائية تقوم على الشك، والتلميح، والمقارنة المبتذلة بين النبل والانحطاط. وهذه ليست لغة نقد، بل لغة إضعاف رمزي، هدفها تقويض الثقة، لا تصويب المسار. فحين يُسأل عن “النوايا” بدل النتائج، وعن “الغايات الخفية” بدل الأثر الملموس، نكون أمام خطاب يخشى الفعل أكثر مما يخشى الخطأ، ويخاف من المبادرة أكثر مما يخاف من الفوضى.
إن العمل في مجال الصحة النفسية ليس طريقًا معبّدًا، ولا مساحة للراحة أو المجد. هو احتكاك يومي بوجع غير مرئي، بصدمات صامتة، وبأفراد لا يطلبون الشفقة بل الفهم. ومن يختار هذا المسار عن وعي، لا يفعل ذلك بحثًا عن شرعية اجتماعية سريعة، بل التزامًا أخلاقيًا طويل النفس. لذلك فإن التشكيك في كفاءة ونزاهة مختصين ذوي تكوين عالٍ ومسار مهني واضح، لا يكشف عن خلل في الرابطة، بل عن أزمة في تصور العمل الجماعي ذاته.
إن مهاجمة رابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب لا تمسّها وحدها، بل تمسّ فكرة التنظيم المهني المسؤول، وتمسّ إمكانية بناء فضاء صحي نفسي قائم على التعدد والتكامل بدل الصراع والإقصاء. فبدل أن يُسأل: ماذا يمكن أن نطوّر؟ وكيف يمكن أن نتكامل؟ يُطرح سؤال عقيم: لماذا هم؟ وكأن الحضور في ذاته خطيئة، وكأن الفعل يحتاج إلى إذن من السكون.
الأخطر في هذا الهجوم أنه يُغذّي، عن قصد أو عن جهل، ثقافة الوصم التي طالما خنقت الصحة النفسية في مجتمعاتنا. فحين يُشيطَن الفاعلون، يُعاد الاعتبار للصمت، وحين يُجرَّح المختصون، يُفتح الباب أمام الدجل، والارتجال، والمقاربات غير العلمية. وهنا لا تكون الخسارة مهنية فقط، بل مجتمعية، لأن الضحية الأولى هي الإنسان الذي يحتاج إلى رعاية نفسية آمنة ومؤطَّرة.
قد لا تكون الرابطة كاملة، ولا تدّعي ذلك، لكنها اختارت أن تشتغل، وأن تتحمل كلفة الظهور، وأن تفتح نفسها للنقاش الحقيقي، لا للاتهام المجاني. أما من يختارون الهجوم من خارج أي اقتراح أو بديل، فإنهم لا يضيفون معرفة، ولا يحمون أخلاقًا، بل يساهمون في إدامة فراغ يُتقن الجميع الشكوى منه ولا يجرؤون على ملئه.
التاريخ لا يُكتب بالتحريض، بل بالفعل. ولا يحفظ أسماء من وقفوا على الهامش يرمون الشك، بل من نزلوا إلى الميدان واشتغلوا رغم القسوة وسوء الفهم. ورابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب، بما راكمته من فعل وتكوين وحضور، اختارت هذا الطريق الصعب، طريق العمل الهادئ، الذي لا يطلب التصفيق ولا يخشى الهجوم، لأنه يعرف أن الأثر الحقيقي لا يُقاس بالضجيج، بل بما يتركه في الوعي، وفي حياة الناس


Comments
0