في أعماق بعض المناطق القروية، حيث لا تزال العلاقات الاجتماعية تحكمها الروابط العائلية والتقاليد المتجذرة، تتجلى مفارقة سياسية مثيرة للجدل: السياسي الناجح ليس بالضرورة من يحمل رؤية تنموية أو برنامجاً إصلاحياً، بل من يتقن فنون النفاق، الحيل، وتوزيع الوعود الزائفة.
سياسة المناسبات: منبر للتمثيل لا للتغيير
في العديد من الدوائر الانتخابية القروية، يتحول المرشح إلى “فاعل خير موسمي”، يظهر في الأعراس والعقائق، يوزع الهبات، ويتكفل بمصاريف العلاج أو التنقل إلى المستشفيات. هذه الممارسات، التي تبدو في ظاهرها إنسانية، تخفي وراءها منطقاً زبونياً يربط التصويت بالخدمة الشخصية، لا بالكفاءة أو البرنامج السياسي. القبيلة قبل الكفاءة؟
في بعض القرى، لا يكفي أن تكون مثقفاً أو ذا كفاءة لتنال ثقة الناخبين. بل يُنظر إلى حجم العائلة، وعدد الأصهار، والقدرة على “قضاء الأغراض” كمعايير أساسية للترشح. هذا المنطق يعيد إنتاج نفس النخب التي تتقن اللعب على أوتار الولاءات العائلية والمصلحية، ويقصي الكفاءات التي ترفض الانخراط في هذا المسار.
المال السياسي: استثمار في الولاء لا في التنمية
حين يُطلب من المرشح أن “يدفع من جيبه” لتغطية مصاريف خاصة للناخبين، فإننا أمام علاقة مختلة بين المواطن والسياسي. فبدلاً من أن يُحاسب المنتخب على برامجه ومواقفه، يُكافأ على سخائه الشخصي، ما يفتح الباب أمام الفساد واستغلال المنصب لاحقاً لتعويض ما تم صرفه خلال الحملة أزمة وعي جماعي أم فشل في التثقيف السياسي؟
هذه الظاهرة تطرح سؤالاً جوهرياً: هل الخلل في السياسيين الذين يمارسون النفاق ويشترون الولاءات؟ أم في المواطنين الذين يختزلون دور المنتخب في “قضاء الحوائج”؟ الحقيقة أن المسؤولية مشتركة، وتبدأ من غياب الوعي السياسي، وتمر عبر ضعف التأطير الحزبي، وتنتهي عند غياب مؤسسات الوساطة الفعالة. الطريق نحو التغيير: من الزبونية إلى المواطنة
لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية في القرى دون إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والسياسي. المطلوب هو الانتقال من منطق “المرشح الخدّام” إلى “المنتخب المسؤول”، ومن ثقافة “الطلب” إلى ثقافة “الحق”. وهذا لن يتحقق إلا عبر التربية المدنية، وتعزيز دور المجتمع المدني، وإصلاح المنظومة الانتخابية بما يضمن الشفافية والمحاسبة.


Comments
0