لم يكن ما جرى ليلة 9 دجنبر داخل القاطرة رقم 56 على الخط الأول لترامواي الدار البيضاء حادثًا عابرًا يمكن طيّه في هامش المذكرات اليومية، ولا هو مجرد نوبة غضب لسائق فقد السيطرة على أعصابه… بل هو صفعة مدوية كشفت عورات منظومة طالما قُدمت للمواطنين باعتبارها نموذجًا للنقل الحضري العصري.
بين الساعة الثامنة والنصف والثامنة وخمسين دقيقة، وفي المقطع الرابط بين محطتي ابن تاشفين وسيدي مومن، تحوّلت رحلة عادية إلى عشرين دقيقة من الرعب الخالص. سائق القاطرة، وفي سلوك لا يمت للمهنية بصلة، اندفع بسرعة متهورة، وراح يتلاعب بالفرامل بشكل فجّ ومفاجئ، مُحدثًا فوضى داخل العربة، ومرعبًا ركابًا لم يفهموا بدايةً هل هم على سكة نقل حضري أم في تجربة صادمة لاختبار قوة التحمل البشرية.
وإذا كان الخوف وحده كافيًا لنسف هدوء الركاب، فإن السائق — وبطريقة مستفزة — صبّ الزيت على النار حين شرع في الصراخ والتفوّه بعبارات نابية في وجه الركاب والمارة على حد سواء. وكل محاولة لتهدئته لم تؤد إلا إلى انفجار جديد في انفعالاته، في مشهد لا ينتمي لثقافة النقل العام، بل أقرب إلى فوضى طرقات بلا رقيب.
وفي ذروة هذا الانفلات، حاول أحد الركاب طلب النجدة عبر الاتصال بمسؤول داخل الشركة يُدعى (ع.م)، لعل تدخلاً ما يعيد بعض الاتزان للموقف. لكن الرد جاء باردًا، خاليًا من أي حس استعجالي أو مسؤولية مهنية. لا إشعار للسائق، لا إرسال لمراقبين، ولا حتى محاولة فهم خطورة الموقف. مجرد جفاء إداري يفضح غياب ثقافة التدخل العاجل، ويطرح أسئلة صادمة حول أهلية بعض الأطر المشرفة على مرفق يُفترض أنه في قلب حركة مدينة بحجم الدار البيضاء.
هذا الحادث ليس شذوذًا… بل حلقة في سلسلة بدأت تطفو على السطح مؤخرًا:
– تأخيرات متكررة بلا تفسير،
– ضعف تنسيق واضح بعد إطلاق الخطين الثالث والرابع،
– سلوكيات غير مهنية من بعض السائقين والمراقبين وحتى حراس المحطات،
– وغياب شبه تام للتواصل مع المرتفقين.
هذه ليست “ملاحظات تقنية”، بل أزمة ثقة حقيقية تتسع يومًا بعد يوم بين المواطنين وبين وسيلة نقل كانت في بداياتها مفخرة للمدينة.
وحين حاولنا — حرصًا على الشفافية — التواصل مع مصلحة الشكايات بحثًا عن معلومة رسمية، كان الرد صادمًا:
“جهاز التواصل كان معطلاً، والسائق حاول أن يتحدث مع أحد الركاب من المقصورة، والتسجيلات لا تتوفر على الصوت.”
تبرير يكشف أكثر مما يخفي، ويؤكّد أن الثقوب ليست في جهاز التواصل فقط، بل في منظومة كاملة تترنح بين الأعطاب التنظيمية والبنيوية.
وإذا كان السائق يتحمل مسؤولية مباشرة في تهوره، فإن الشركة المسيرة تتحمل مسؤولية أكبر وأخطر:
– فوضى في التكوين،
– غياب مراقبة فعلية،
– انعدام مواكبة نفسية ومهنية للسائقين،
– وفراغ مقلق في بروتوكولات التعامل مع الطوارئ.
الأدهى أن الحادث كشف هشاشة مزدوجة:
هشاشة التواصل الداخلي بين السائقين والإدارة، وهشاشة التواصل الخارجي مع الركاب.
وهو ما يجرّنا إلى أسئلة لا يمكن القفز عليها:
هل توسعت شبكة الترامواي بوتيرة تفوق قدرة الشركة على ضبط معايير الجودة؟
أم أن طريق الإصلاح أطول وأعقد من كفاءة من يديرون هذا المرفق؟
نحن أمام واقع لا يسمح بالمجازفة. فالترامواي، باعتباره شريانًا أساسيًا في تنقلات مئات الآلاف يوميًا، يحتاج إلى:
– إعادة النظر في تكوين السائقين،
– وضع خطة واضحة للتدخل الاستعجالي،
– تعزيز التواصل الفوري مع المواطنين،
– وتقييم شامل للخطوط الجديدة وتأثيرها على الخدمة.
لم يخلف حادث ليلة 9 دجنبر خسائر مادية، لكنه خلف شرخًا عميقًا في الثقة… والخسارة الأخطر في النقل العمومي ليست الحوادث، بل حين يفقد المواطن شعوره بالأمان.


Comments
0