حين يستعيد الجمهور بوصلته الرقمية… صعود موجة الوعي في زمن الانحدار
✍️ هند بومديان
تشهد منصات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة حراكًا واسعًا يقوده مستخدمون استشعروا الحاجة الملحّة إلى رفع مستوى الوعي داخل الفضاء الرقمي. هذا الحراك، الذي يعبّر عنه شعار “زيرو تفاهة”، لم يعد مجرد رد فعل عابر تجاه بعض المقاطع أو السلوكيات، بل صار موقفًا جماعيًا يطالب بإعادة تقييم المشهد الرقمي وإعادة تعريف ما يستحق أن يُشاهَد وما يجب أن يندثر.
لقد أدى الانتشار المفرط للمحتوى السطحي خلال السنوات الأخيرة إلى خلق واقع رقمي تتسلط فيه مقاطع قصيرة بلا مضمون، مبنية على الجذب السهل والإثارة الفارغة، حتى صار بعض صناع المحتوى يلهثون خلف الشهرة السريعة على حساب القيمة والمعرفة والرسالة. ومع تراكم هذه الظاهرة، بات الجمهور يشعر بأن منصات التواصل تفقد تدريجيًا دورها الحقيقي كمجال للتعبير والإبداع والتفاعل، وتتحول إلى ساحة مفتوحة للضجيج، لا يعلو فيها صوت الجودة.
إن موجة الرفض الواسعة التي ظهرت مؤخرًا تعكس تحولًا في وعي المستخدمين، واعترافًا بأنهم ليسوا مجرد متلقين سلبيين، بل قوة قادرة على التأثير وتغيير المسار. فجمهور اليوم يدرك أن ما يُعرض على الشاشات الصغيرة داخل كل بيت ليس أمرًا عابرًا، بل هو مادة تشكل الذوق وتؤثر في السلوك وترسم صورة المجتمع في أعين أبنائه.
هذه الحركة لا تستهدف الترفيه بوصفه نقيضًا للجدية، بل تستهدف الانحدار حين يتحول إلى قاعدة، وحين تُهمَّش المبادرات الجادة لصالح محتوى يستخف بالعقل ويُشوّه الذائقة. إنها دعوة لإعادة الاعتبار للمبدعين الحقيقيين، ولحماية الأطفال من سيل متواصل من المقاطع التي لا تضيف شيئًا سوى الضجيج.
إن نجاح هذا الحراك سيقاس بقدرته على خلق سلوك جديد لدى الجمهور، يقوم على دعم المحتوى الهادف وتجاهل كل ما لا يحمل قيمة حقيقية. فالتغيير يبدأ من قرار فردي بسيط: منح التفاعل لمن يستحقه، وحجب المشاهدة عمن جعل من الابتذال وسيلة للانتشار.
لقد أثبتت هذه الموجة أن المجتمع قادر على استعادة بوصلته حين يشعر بأن الذوق العام مُهدَّد، وأنه يمتلك القوة لإيقاف الانحدار متى قرر أن يرفع صوته. إنها لحظة وعي تستحق أن تُقرأ جيدًا، لأنها تعيد التأكيد على أن الفضاء الرقمي ليس خارج مسؤولية المجتمع، بل هو امتداد له ومرآة تعكس قيمه ومستقبله.


Comments
0