شهدت الندوة الوطنية حول تحولات الحقل الحزبي المغربي مداخلة علمية معمقة للدكتور عبد الحافظ أدمينو، المتخصص في قضايا الإدارة والحوكمة، حيث قدم تحليلا دقيقا لطبيعة الأداء الحزبي وتأثيره المباشر على منظومة السياسات العمومية، من خلال مقاربة تجمع بين القانون الدستوري، علم السياسة، وتقييم الفعل العمومي.
أكد الدكتور أدمينو أن أي تقييم موضوعي للأحزاب السياسية لا يمكن فصله عن مخرجات النظام السياسي ككل، وعن طبيعة التنافس الحزبي الذي يفترض أن يقوم على البرامج والسياسات العمومية لا على الخطابات الظرفية. وشدد على أن التأثير الحقيقي للأحزاب يظهر من خلال مساهمتها في صياغة السياسات العمومية وتنفيذها، باعتبارها الفاعل الذي يربط بين المجتمع والدولة.
وأشار في هذا السياق إلى أن الهندسة الدستورية المغربية وضعت تمييزا واضحا بين المجالات التي تتولاها الدولة والمجالات التي تتحمل فيها الأحزاب والحكومة مسؤولية اتخاذ القرار وتنفيذ البرامج. وهذا التمييز، برأيه، يجعل من المهم دراسة كيفية اشتغال الأحزاب داخل هذه الهندسة ومدى قدرتها على التأثير في خيارات الدولة وتوجهاتها الكبرى.
وأوضح الدكتور أدمينو أن قوة الفعل العمومي لا تُقاس بالشعارات، بل بقدرة الإدارة والمنتخبين على تنزيل السياسات العمومية بطريقة فعالة، وهو ما يجعل دور الإدارة محوريا داخل المنظومة، بينما يظل دور الأحزاب رهينا بمدى امتلاكها رؤية واضحة وبرامج قابلة للتنفيذ. كما لفت الانتباه إلى أن مخرجات التنافس الحزبي أصبحت اليوم أقرب إلى تقاطع أفقي بين اليسار واليمين والليبراليين والمحافظين، وأن الحاجة أصبحت ملحة للتركيز على الأحزاب البرامجية بدل الأحزاب ذات المرجعيات الأيديولوجية الصلبة.
وسجل المتحدث هيمنة البعد التكنوقراطي على السياسات العمومية في المغرب، وهو ما يجعل الأحزاب تتراجع أمام تأثير الخبراء والإداريين، خصوصا في الملفات الاستراتيجية والاجتماعية والاقتصادية الممتدة على مدى زمني طويل يصل إلى عشرين أو ثلاثين سنة. وأشار إلى أن العديد من البرامج الحكومية تتحول في النهاية إلى أرقام ونسب، بينما يظل الأثر الاجتماعي الفعلي محدودا.
كما اعتبر أن توجه الدولة نحو اللامركزية يعزز دور الجماعات الترابية، ويدفع في اتجاه بناء سياسات عمومية من القاعدة المحلية نحو المستوى الوطني. غير أن هذا التوجه، حسب رأيه، ما يزال يواجه تحديات تتعلق بتعدد الفاعلين، كثرة المؤسسات، والتعقيد القانوني الذي يصعّب تنفيذ الوعود الانتخابية.
وفي قراءته لمسار تشكيل الحكومات، أشار إلى أن التحالفات الحزبية المتباعدة في المرجعيات تؤثر مباشرة على القدرة على تنزيل البرامج الحكومية، مما يفرز حالة من عدم الاتساق تعيق التنفيذ الفعال للسياسات، وتخلق ما يشبه الحلقة المفرغة بين الوعود الانتخابية والواقع التشريعي والتنفيذي.
وبخصوص الدولة الاجتماعية، أكد الدكتور أدمينو أنها أصبحت اليوم الفاعل المركزي في مواجهة الإكراهات الكبرى التي تطال السياسات العمومية، لكن هذا الدور يظل مرتبطا بمدى التزام الأحزاب بوعودها الانتخابية، وبقدرتها على ترجمتها إلى برامج قابلة للتنفيذ فعليا داخل الإطار القانوني والمؤسساتي.
وختم مداخلته بالتأكيد على أن تعدد الفاعلين وتنوع المرجعيات داخل الحقل الحزبي، إلى جانب التعقيد الدستوري والإداري، كلها عناصر تجعل تأثير الأحزاب في السياسات العمومية محدودا مقارنة بحجم الانتظارات الاجتماعية. ودعا إلى إعادة بناء العلاقة بين الأحزاب والناخبين من خلال تعاقد سياسي واضح، يقوم على الواقعية، المساءلة، والقدرة على التنفيذ.


Comments
0