في تلك الليلة التي ظنّ أهل فاس أنها ككل الليالي… كانت المدينة تخبّئ في بطنها صرخة لم يسمعها أحد. وفجأة، انشقت الجدران، وانهار السقف، وابتلعت الأرض تسعة عشر إنساناً دفعة واحدة. ماتوا بلا ذنب، بلا إنذار، بلا فرصة للنجاة. ماتوا لأن أحدهم خان الأمانة… ولأن منظومة كاملة اختارت الصمت بدل الواجب.
يا للهول… كيف ينام طفل مطمئن في حضن أمه، ليجد نفسه في لحظة مدفوناً تحت أحجار جدران كانت تُفترض أن تحميه؟ كيف تُخطف أرواح رجال ونساء بلمح البصر، فقط لأن شخصاً ما قرر أن يبني كيف يشاء، وأن يرشي من يشاء، وأن يعبث بقوانين كُتبت أصلاً لحماية هؤلاء الأبرياء؟
الموت الذي حدث في فاس لم يكن “قدراً”، بل كان صفعة. صفعة قوية تُوجِّهها الحقيقة إلى وجوه كل من غضّ الطرف، وكل من رخص، وكل من علم ولم يتدخل. هذه ليست كارثة عارضة… إنها جريمة مكتملة الأركان. جريمة سقوطها لم يكن بسبب الزمن، ولا بسبب تآكل البنايات، بل بسبب تآكل الضمير، وتفتت المسؤولية، واهتراء الرقابة.
من سيعيد تلك الأرواح؟ من سيُرجع ضحكة طفل قُطعت نصفين تحت الركام؟ من سيهدّئ قلب أم ماتت وطفلها في حضنها؟ من سيعيد حياة توقفت لأنها وُضعت بين يدي مقاول لا يخاف الله، ومسؤول لا يخاف القانون؟
إن المأساة في فاس ليست مجرد انهيار طابق فوق طابق… بل انهيار منظومة كاملة تحت وزن الفساد.
ومن يهرب من هذه الحقيقة يرتكب خيانة أخرى، لا تقل بشاعة عمّا حدث تلك الليلة.
وحتى نكون واضحين وصارمين:
كل يد ساهمت في منح رخصة، أو تلاعبت في بناء، أو تساهلت في مراقبة، أو قالت “دعها تمر”… يجب أن تُحاسب.
ليس تعاطفاً مع الضحايا فقط… بل احتراماً لحق الحياة نفسه. فالأرواح التي صعدت إلى خالقها لم تصعد بسبب خطأ تقني، بل بسبب تقصير قاتل.
فاس اليوم تنزف… تنزف ألماً، تنزف غصة، تنزف غضباً.
والوجوه التي خرجت من تحت الأنقاض ليست أرقاماً… إنها رسائل صارخة تقول للدولة والمجتمع وكل مسؤول:
كفى.
كفى صمتاً.
كفى تهاوناً.
كفى دفن الحقيقة مع الضحايا.
هذه الفاجعة لم تُغلق باباً… بل فتحته على مصراعيه.
فتحته على سؤال واحد يجب أن يجد جوابه بكل صدق وحزم:
هل نبني أوطاناً أم نحفر قبوراً؟
فإذا لم تكن المحاسبة هذه المرة حقيقية، عميقة، شاملة…
فإن انهيار فاس لن يكون الأخير.
وسيُكتب في سجلّ هذه البلاد أننا فشلنا في حماية أبسط حقوق الإنسان:
أن يعود إلى بيته… وأن يخرج منه حيّاً.


Comments
0